كانت الدنيا مليئة بالمشركين هذا يدعو صنماً وذاك يرجو قبراً والثالث يعبد بشراً , والرابع يعظم شجراً , نظر إليهم ربهم فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من موحدي أهل الكتاب وكان من بين هؤلاء السادرين سيد من السادة هو عمرو بن الجموح كان له صنم اسمه مناف يتقرب إليه ويسجد بين يديه هو مفزعه عند الكربات وملاذه عند الحاجات صنم صنعه من خشب لكنه أحب إليه من أهله وماله.
وكان شديد الإسراف في تقديسه وتزيينه وتطييبه وتلبيسه وكان هذا دأبه مذ عرف الدنيا حتى جاوز عمره الستين سنة، فلما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وأرسل مصعب بن عمير رضي الله عنه داعية ومعلماً لأهل المدينة أسلم ثلاثة أولاد لعمرو بن الجموح فعمدوا إلى أبيهم فأخبروه بخبر هذا الداعي المعلم وقرؤوا عليه القرآن.
وقالوا: يا أبانا قد اتبعه الناس فما ترى في اتباعه؟ فقال: لست أفعل حتى أشاور مناف فأنظر ما يقول، ثم قام عمرو إلى مناف.. وكانوا إذا أرادوا أن يكلموا أصنامهم جعلوا خلف الصنم عجوزاً تجيبهم بما يلهمها الصنم في زعمهم.
أقبل عمرو يمشي بعرجته إلى مناف وكانت إحدى رجليه أقصر من الأخرى فوقف بين يدي الصنم معتمداً على رجله الصحيحة تعظيماً واحتراماً, ثم حمد الصنم وأثنى عليه ثم قال: يا مناف لا ريب أنك قد علمت بخبر هذا القادم ولا يريد أحداً بسوء سواك وإنما ينهانا عن عبادتك فأشر عليّ يا مناف، فلم يرد الصنم شيئاً، فأعاد عليه فلم يجب.
فقال عمرو: لعلك غضبت وإني ساكت عنك أياماً حتى يزول غضبك.. ثم تركه وخرج فلما أظلم الليل أقبل أبناؤه إلى مناف فحملوه وألقوه في حفرة فيها أقذار وجيف فلما أصبح عمرو دخل إلى صنمه لتحيته فلم يجده فصاح بأعلى صوته ويلكم من عدا على إلهنا الليلة؟
فسكت أهله ففزع واضطرب وخرج يبحث عنه فوجده منكساً على رأسه في الحفرة فأخرجه وطيبه وأعاده لمكانه وقال له: أما والله يا مناف لو علمت من فعل هذا لأخزيته.
فلما كانت الليلة الثانية أقبل أبناؤه إلى الصنم فحملوه وألقوه في تلك الحفرة المنتنة فلما أصبح الشيخ التمس صنمه فلم يجده في مكانه فغضب وهدد وتوعد ثم أخرجه من تلك الحفرة فغسله وطيبه ثم مازال الفتية يفعلون ذلك بالصنم كل ليلة وهو يخرجه كل صباح.
فلما ضاق بالأمر ذرعاً راح إليه قبل منامه وقال: ويحك يا مناف إن العنز لتمنع أُستها ثم علق في رأس الصنم سيفاً وقال: ادفع عدوك عن نفسك.
فلما جن الليل حمل الفتية الصنم وربطوه بكلب ميت وألقوه في بئر يجتمع فيه النتن فلما أصبح الشيخ بحث عن مناف فلما رآه على هذا الحال في البئر قال:
ورب يبول الثعلبان برأسه لقد خاب من بالت عليه الثعالبُ
ثم دخل في دين الله ومازال يسابق الصالحين في ميادين الدين وانظر إليه لما أراد المسلمون الخروج إلى معركة بدر منعه أبناؤه لكبر سنه وشدة عرجته فأصر على الخروج للجهاد فاستعانوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بالبقاء في المدينة فبقي فيها فلما كانت غزوة أحد أراد عمرو الخروج للجهاد فمنعه أبناؤه.
فلما أكثروا عليه ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يدافع عبرته ويقول: يا رسول الله! إن بني يريدون أن يحبسوني عن الخروج معك إلى الجهاد, قال: إن الله قد عذرك. فقال: يا رسول الله.. والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة، فأذن له صلى الله عليه وسلم بالخروج.
فأخذ سلاحه وقال: اللهم ارزقني الشهادة ولا تردني إلى أهلي.. فلما وصلوا إلى ساحة القتال والتقى الجمعان وصاحت الأبطال ورميت النبال انطلق عمرو يضرب بسيفه جيش الظلام ويقاتل عباد الأصنام حتى توجه إليه كافر بضربة سيف كُتبت له بها الشهادة فدفن رضي الله عنه ومضى مع الذين أنعم الله عليهم.
وبعد ست وأربعين سنة وفي عهد معاوية رضي الله عنه نزل بمقبرة شهداء أحد سيل شديد غطى أرض القبور فسارع المسلمون إلى نقل رفات الشهداء فلما حفروا عن قبر عمرو بن الجموح فإذا هو كأنه نائم لين جسده تتثنى أطرافه لم تأكل الأرض من جسده شيئاً.
فتأمل أخي الحبيب كيف ختم الله له بالخير لما رجع إلى الحق لما تبين له, بل انظر كيف أظهر الله كرامته في الدنيا قبل الآخرة لما حقق لا إله إلا الله..
هذه الكلمة التي قامت بها الأرض والسموات وفطر الله عليها جميع المخلوقات وهي سبب دخول الجنة ولأجلها خلقت الجنة والنار وانقسم الخلق إلى مؤمنين وكفار وأبرار وفجار فلا تزول قدما العبد يوم بين يدي الله حتى يسأل: ماذا كنتم تعبدون وماذا أجبتم المرسلين؟
وهنا نداء لكل من تعلق بغير الله من قبور وأضرحة: بالله عليكم ما الفرق بين من يعبد حجراً ومن يعبد قبراً؟بين من ينزل حاجته بأصنام ومن ينزلها برفات وعظام, بين من يتعبد لقبور الأولياء ومن يتعبد لطين وماء.
نعم.. كل هؤلاء يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، وهذا ما أوقع القبوريين في وثنية صريحة لا شك فيها ولا خفاء, يقول الله تعالى: ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين).
فصرف شيء من العبادة لغير الله هو شرك يموت به الإنسان كافراً إن لم يتب.. اسأل الله جلا وعلا أن يحيينا على التوحيد وأن يمتنا عليه إنه ولي ذلك والقادر عليه.
من فوائد القصة:
ـ لا فوز ولا نجاة لإنسان في الدنيا والآخرة إلا بتحقيق التوحيد.
ـ على الداعية أن يتحلى بالصبر وأن يتخذ الأسلوب المناسب للإنسان الذي يدعوه.
ـ علينا أن نربي أنفسنا على قبول الحق ولا نكابر من أجل هوى أو عادة أو غير ذلك.
ـ من أسرع الطرق للجنة الجهاد في سبيل الله.
ـ للشهيد منازل عظيمة وكرامات تقع له في الدنيا قبل الآخرة.
ـ الصدق مع الله هو مفتاح التوفيق والنجاح يا من تريد خدمة الدين.
|